في اليوم العالميّ للأجداد والمسنّين، البابا يشدّد على ثلاث لحظات ملخَّصة في ثلاثة أفعال

في اليوم العالميّ للأجداد والمسنّين، البابا يشدّد على ثلاث لحظات ملخَّصة في ثلاثة أفعال

أيّها الإخوة والأخوات، يسعدني ويشرفني أن أقرأ العظة التي أعدّها البابا فرنسيس في هذه المناسبة.

وفيما كان يسوع جالسًا يعلّم، “رَفَعَ عَينَيه، فرأَى جَمعًا كثيرًا مُقبِلًا إِلَيه. فقالَ لِفيلِبُّس: مِن أَينَ نَشتَري خُبزًا لِيأكُلَ هٰؤلاء؟” (يوحنّا 6، 5). لا يكتفي يسوع بالتّعليم، ولكنّه يهتم للجوع الذي يسكن حياة الناس. وهكذا، أطعم الجموع بتوزيع الأرغفة الخمسة والسمكتين التي كانت مع أحد الفتيان. في النهاية، حيث فَضَلَت عدّة كِسَر من الخبز، طلب من تلاميذه أن يجمعوها، “لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها” (الآية 12).

في هذا اليوم، المكرّس للأجداد وكبار السّن، أودّ التركيز على هذه اللحظات الثلاث: يسوع يرى جوع الجموع، ويشارك في الخبز، ويوصي بجمع الكِسَر التي فَضَلَت. ثلاث لحظات يمكن تلخيصها في ثلاثة أفعال: رأى، وشارك، وحافظ.

الفعل الأوّل: رأى. يركّز الإنجيلي يوحنا، في بداية الرواية، على هذه الحركة: رفع يسوع عينيه فرأى الجموع الجائعة، بعد أن سارت طويلًا للقائه. هكذا تبدأ المعجزة: بنظرة يسوع الذي لا يبدو غير مبالٍ أو كثير الأشغال، بل يشعر بآلام الجوع التي تجتاح البشريّة المُتعبة. إنّه يقلق علينا، ويهتمّ بنا، ويريد إطعام جوعنا للحياة والحبّ والسعادة. نرى في عينَي يسوع نظرة الله: إنّها نظرة متنبهة، ترانا، وتتفحص التطلّعات التي نحملها في قلوبنا، وتلاحظ التعب والإرهاق والرجاء الذي به نسير. إنّها نظرة تعرف كيف تدرك حاجة كلّ فرد: في نظر الله لا توجد جموع مبهمة لا اسم لها، بل يوجد كلّ شخص مع جوعه. نظرة يسوع تتأمل وتنفَذ. إنّها قادرة على الوقوف أمام حياة الآخر وتقرأ في داخله.

بمثل هذه النظرة، نظر أيضًا الأجداد وكبار السّن في حياتنا. بهذه الطريقة اعتنوا بنا منذ طفولتنا. بعد حياة مليئة بالتضحيات، لم يصيروا غير مبالين بنا أو كثيري المشاغل من دوننا. عيونهم ظلت متنبهة، مليئة بالحنان. لمّا كنا ننمو، وكنّا نشعر بأنّ لا أحد يفهمنا، أو كنا خائفين أمام تحدّيات الحياة، هم انتبهوا إلينا، وإلى ما كان يتغيّر في قلوبنا، وإلى دموعنا الخفيّة والأحلام التي كنّا نحملها في داخلنا. مررنا جميعًا بأحضان أجدادنا الذين حملونا بين أيديهم. وبفضل هذا الحبّ أيضًا أصبحنا بالغين.

ونحن، بأيّ نظرة ننظر إلى الأجداد وكبار السّن؟ متى كانت آخر مرّة قمنا فيها بمرافقة شخص مسن أو اتصلنا به هاتفيًّا لنخبره أنّنا قريبون منه وليباركنا بكلماته؟ أنا أتألّم عندما أرى مجتمعًا يركض، كثير الأشغال وغير مبالٍ، مأخوذ بأشياء كثيرة، وغيرِ قادر على التوقف ليلقي نظرة، أو تحيّة، أو يلاطف أحدًا. إنّي أخاف من مجتمع نكون فيه جميعًا جموعًا مبهمة لا اسم لها، ولم نعد نقدر أن نرفع نظرنا والتعرّف بعضنا على بعض. إنّ أجدادنا الذين غذّوا حياتنا، أصبحوا اليوم جائعين إلينا: إلى اهتمامنا، وإلى حناننا، إلى الشعور بقربنا منهم. لنرفع نظرنا إليهم، كما يفعل يسوع معنا.

الفعل الثاني: شارك. بعد أن رأى يسوع جوع الناس، أراد أن يطعمهم. وهذا حصل بفضل عطيّة فتى شاب، قدّم أرغفته الخمسة وسمكتين. من الجميل أنّه في قلب هذه المعجزة، التي أفادت بالغين كثيرين- حوالي خمسة آلاف شخص – كان هناك فتى، شاب، شارك في ما لديه.

إنّنا بحاجة اليوم إلى تحالف جديد بين الشباب والكبار، إنّنا بحاجة للمشاركة في كنز الحياة المشترك، وللحلم معًا، وللتغلّب على صراع الأجيال، لإعداد مستقبل الجميع. من دون هذا التحالف في الحياة والأحلام والمستقبل، فإننا نوشك أن نموت جوعًا: فقد زادت العلاقات المحطّمة، والوحدة، والأنانيّة، والقوى المفكِّكة. غالبًا، في مجتمعاتنا، نسلّم الحياة إلى المبدأ “كلّ واحدٍ يهتم لنفسه”. لكنَّ هذا قاتل! يحثّنا الإنجيل على أن نشارك في ما نحن وفي ما نملك: بهذه الطريقة فقط يمكننا أن نجد الشِّبَع. أذكر مرارًا ما قاله النبي يوئيل في هذا الموضوع (را. يوئيل 3، 1): شبّانًا وشيوخًا معًا. الشبّان، أنبياء المستقبل الذين لا ينسون التاريخ الذي أتوا منه. والشيوخ، الحالمون الذين لم يتعبوا قط، والذين ينقلون تجاربهم إلى الشباب، من دون أن يعرقلوا طريقهم. شباب وشيوخ، كنز التقليد ونضارة الرّوح. شباب وشيوخ معًا. في المجتمع وفي الكنيسة، معًا.

الفعل الثالث: حافظ. بعد أن أكلوا، يقول الإنجيل إن كِسَرًا كثيرة من الخبز قد فَضَلَت. فأوصاهم يسوع: “اجمعوا ما فَضَلَ مِنَ الكِسَرِ لِئَلاَّ يَضيعَ شَيءٌ مِنها” (يوحنّا 6، 12). هكذا يكون قلب الله: فهو يهبنا أكثر ممّا نحتاج إليه، وليس هذا فقط، بل إنّه يهتم حتى لا يضيع شيء، ولا كسرة واحدة. قد تبدو قطعة صغيرة من الخبز شيئًا صغيرًا، ولكن في نظر الله لا شيء يجب أن يلقى جانبًا. وبحجة أولى، لا أحد يُلقَى جانبًا. إنّها دعوة نبويّة، نحن مدعوّون إلى ترديد صداها اليوم فينا وفي العالم: اجمعوا، واهتموا لكلّ شيء، واحفظوا. الأجداد وكبار السّن ليسوا بقايا حياة، ليسوا فضلة تُلقَى جانبًا. إنّهم قطع الخبز الثمينة التي بقيت على مائدة حياتنا، والتي يمكنها أن تغذّينا، بعِطرٍ فقدناه، “عطر الرّحمة والذاكرة”. لا نفقد الذكرى التي يحملها كبار السّن، لأنّنا أبناء ذلك التاريخ، ومن دون جذور سنذبل. هم حافظوا علينا على طول الطريق ونحن ننمو، والآن يجب علينا نحن أن نحافظ على حياتهم، وأن نخفّف صعوباتهم، وأن نستمع إلى احتياجاتهم، ونهيئ الظروف التي تمكنهم من تسهيل مهامهم اليوميّة وعدم الشعور بالوَحدة. لنسأل أنفسنا: هل قمت بزيارة أجدادي؟ وكبار السّن في عائلتي أو في الحيّ؟ هل استمعت إليهم؟ هل خصصت لهم بعض الوقت؟ ” لنحرسهم حتى لا يضيع شيء: لا شيء، من حياتهم ومن أحلامهم. هذه هي مهمتنا اليوم، لنتدارك ندم الغد، إن لم نهتم الاهتمام الكافي للذين أحبونا ومنحونا الحياة.

الإخوة والأخوات، الأجداد وكبار السّن هم الخبز الذي يغذي حياتنا. نحن شاكرون لعيونهم المتنبهة، التي رأتنا، ولأحضانهم وأذرعهم التي حملتنا، وأيديهم التي رافقتنا ورفعتنا، وللألعاب التي لعبوها معنا وللملاطفات التي عزونا بها. من فضلكم، لا ننساهم. لنتحالف معهم. لنتعلّم أن نتوقّف، ونتعرّف عليهم، ونستمع إليهم. لا نتجاهلهم أبدًا. لنحافظ عليهم في الحبّ. ولنتعلّم أن نتشارك الوقت معهم. كذلك نكون أفضل. ومعًا، شبانًا وشيوخًا، سنشبع على مائدة المشاركة، التي يباركها الله.

***********

© جميع الحقوق محفوظة – حاضرة الفاتيكان 2021